فصل: سورة الذاريات:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: في ظلال القرآن (نسخة منقحة)



ومن ثم يعاجلهم بمشهدهم في هذا اليوم الذي يستبعدونه ويستنكرونه؛ وهم يحرقون بالنار كحرق المعدن لتمييز حقيقته: {يوم هم على النار يفتنون}! ومعه التبكيت المؤلم في الموقف العصيب: {ذوقوا فتنتكم هذا الذي كنتم به تستعجلون}..
فهذه المعاجلة هي الجواب اللائق بهذا التساؤل. وهذا العنف في المشهد هو المقابل للذهول والسهوة التي يعيش فيها الخراصون. وهو مصداق دعوة الله عليهم بالقتل في أشد صوره وأعنفها: يوم هم على النار يفتنون!
وعلى الضفة الأخرى وفي الصفحة المقابلة يرتسم مشهد آخر، لفريق آخر، فريق مستيقن لا يخرص؛ تقي لا يتبجح؛ مستيقظ يعبد ويستغفر، ولا يقضي العمر في غمرة وذهول:
{إن المتقين في جنات وعيون آخذين ما آتاهم ربهم إنهم كانوا قبل ذلك محسنين كانوا قليلاً من الليل ما يهجعون وبالأسحار هم يستغفرون وفي أموالهم حق للسائل والمحروم}..
فهذا الفريق. فريق المتقين. الأيقاظ. الشديدي الحساسية برقابة الله لهم، ورقابتهم هم لأنفسهم. هؤلاء {في جنات وعيون}.. {آخذين ما آتاهم ربهم} من فضله وإنعامه، جزاء ما أسلفوا في الحياة الدنيا من عبادة لله كأنهم يرونه، ويقين منهم بأنه يراهم: {إنهم كانوا قبل ذلك محسنين}..
ويصور إحسانهم صورة خاشعة، رفافة حساسة:
{كانوا قليلاً من الليل ما يهجعون وبالأسحار هم يستغفرون}..
فهم الأيقاظ في جنح الليل والناس نيام، المتوجهون إلى ربهم بالاستغفار والاسترحام لا يطعمون الكرى إلا قليلاً، ولا يهجعون في ليلهم إلا يسيرا. يأنسون بربهم في جوف الليل فتتجافى جنوبهم عن المضاجع، ويخف بهم التطلع فلا يثقلهم المنام!
قال الحسن البصري: {كانوا قليلاً من الليل ما يهجعون}.. كابدوا قيام الليل، فلا ينامون من الليل إلا أقله، ونشطوا فمدوا إلى السحر، حتى كان الاستغفار بسحر.
وقال قتادة: قال الأحنف بن قيس: {كانوا قليلاً من الليل ما يهجعون}.. كانوا لا ينامون إلا قليلاً. ثم يقول: لست من أهل هذه الآية!
وقال الحسن البصري: كان الأحنف بن قيس يقول عرضت عملي على عمل أهل الجنة فإذا قوم قد باينونا بوناً بعيداً، إذ نحن قوم لا نبلغ أعمالهم.
كانوا قليلاً من الليل ما يهجعون. وعرضت عملي على عمل أهل النار، فإذا قوم لا خير فيهم، مكذبون بكتاب الله وبرسل الله مكذبون بكتاب الله وبرسل الله مكذبون بالبعث بعد الموت. فقد وجدت من خيرنا منزلة قوماً خلطوا عملاً صالحاً وآخر سيئاً.
وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم: قال رجل من بني تميم لأبي: يا أبا أسامة صفة لا أجدها فينا. ذكر الله تعالى قوماً فقال: {كانوا قليلاً من الليل ما يهجعون}. ونحن والله قليلاً من الليل ما نقوم! فقال له أبي- رضي الله عنه-: طوبى لمن رقد إذا نعس، واتقى الله إذا استيقظ.
فهي حال يتطلع إليها رجال من التابعين- ذوي المكانة في الإيمان واليقين- ويجدون أنفسهم دونها. اختص بها ناس ممن اختارهم الله، ووفقهم إلى القيام بحقها. وكتبهم بها عنده من المحسنين.
وهذه حالهم مع ربهم، فأما حالهم مع الناس، وحالهم مع المال، فهو مما يليق بالمحسنين:
{وفي أموالهم حق للسائل والمحروم}..
فهم يجعلون نصيب السائل الذي يسأل فيعطى، ونصيب المحروم الذي يسكت ويستحي فيحرم. يجعلون نصيب هذا وهذا حقاً مفروضاً في أموالهم. وهم متطوعون بفرض هذا الحق غير المحدود.
وهذه الإشارة تتناسق مع علاج السورة لموضوع الرزق والمال، لتخليص القلب من أوهاق الشح وأثقال البخل وعوائق الانشغال بالرزق. وتمهد للمقطع التالي في السورة، في الوقت الذي تكمل سمة المتقين وصورة المحسنين.
{وفي الأرض آيات للموقنين وفي أنفسكم أفلا تبصرون وفي السماء رزقكم وما توعدون فورب السماء والأرض إنه لحق مثلما أنكم تنطقون}..
وهي لفتة إلى آيات الله في الأرض وفي الأنفس؛ وتوجيه إلى السماء في شأن الرزق المكتوب والحظ المقدور. تختم بقسم عظيم. قسم الله- سبحانه- بذاته بوصفه: {رب السماء والأرض} اللتين ورد ذكرهما في هذا المقطع. على أن هذا القول الذي جاءهم من عنده حق يقين..
{وفي الأرض آيات للموقنين وفي أنفسكم أفلا تبصرون}؟..
هذا الكوكب الذي نعيش عليه معرض هائل لآيات الله وعجائب صنعته. معرض لم نستجل منه حتى اللحظة إلا القليل من بدائعه. ونحن نكشف في كل يوم جديداً منه، ونطّلع منه على جديد.. ومثل هذا المعرض، معرض آخر مكنون فينا نحن.. النفس الإنسانية.. الخفية الأسرار، التي تنطوي فيها أسرار هذا الوجود كله، لا أسرار الكوكب الأرضي وحده!
وإلى هذين المعرضين الهائلين تشير الآيتان تلك الإشارة المختصرة، التي تفتح هذين المعرضين على مصاريعهما لمن يريد أن يبصر، ولمن يريد أن يستيقن، ولمن يريد أن يملأ حياته حتى تفيض بالمتعة والمسرة، وبالعبرة الحية، وبالرصيد القيم من المعرفة الحقة، التي ترفع القلوب وتضاعف الأعمار!
والنصوص القرآنية معدة للعمل في جميع الأوساط والبيئات والظروف والأحوال.
قادرة على إعطاء رصيد معين لكل نفس ولكل عقل ولكل إدراك. كل بقدر ما يتقبل منها وما يطيق.
وكلما ارتقى الإنسان في المعرفة، واتسعت مداركه، وزادت معلوماته، وكثرت تجاربه، واطلع على أسرار الكون وأسرار النفس.. ارتقى نصيبه، وتضخم رصيده، وتنوع زاده الذي يتلقاه من نصوص القرآن.. هذا الكتاب الذي لا تنفد عجائبه، ولا يخلق على كثرة الرد كما يقول عنه النبي الذي تلقاه واستوعب أسراره، وعاش بها. يقول عن تجربة حية وجدها في نفسه فعبر عنها ذلك التعبير- صلوات الله وسلامه عليه-.
ولقد وجد الذين سمعوا هذا القرآن أول مرة من آيات الله في الأرض وآياته في النفس، نصيبهم، وتسلموا رصيدهم، وفق معارفهم وتجاربهم وإشراقات نفوسهم. ووجد كذلك كل جيل أتى بعدهم نصيباً يناسب ما تفتح له من أنواع العلوم والمعارف والتجارب. ونجد نحن نصيبنا وفق ما اتسع لنا من رقعة العلم والمعرفة والتجريب، وما تكشف لنا من أسرار لا تنفد في هذا الكون الكبير. وستجد الأجيال بعدنا نصيبها مدخراً لها من الآيات التي لم تكشف لنا بعد في الأرض والنفس. ويبقى هذان المعرضان الإلهيان الهائلان حافلين بكل عجيب وجديد إلى آخر الزمان.
هذه الأرض. هذا الكوكب المعد للحياة، المجهز لاستقبالها وحضانتها بكل خصائصه، على نحو يكاد يكون فريداً في المعروف لنا في محيط هذا الكون الهائل، الحافل بالنجوم الثوابت والكواكب السيارة. التي يبلغ عدد المعروف منها فقط- والمعروف نسبة لا تكاد تذكر في حقيقة الكون- مئات الملايين من المجرات التي تحوي الواحدة منها مئات الملايين من النجوم. والكواكب هي توابع هذه النجوم!
ومع هذه الأعداد التي لا تحصى فإن الأرض تكاد تنفرد باستعدادها لاستقبال هذا النوع من الحياة وحضانته. ولو اختلت خصيصة واحدة من خصائص الأرض الكثيرة جداً لتعذر وجود هذا النوع من الحياة عليها.. لو تغير حجمها صغراً أو كبراً، لو تغير وضعها من الشمس قرباً أو بعداً. لو تغير حجم الشمس ودرجة حرارتها. لو تغير ميل الأرض على محورها هنا أو هنا. لو تغيرت حركتها حول نفسها أو حول الشمس سرعة أو بطأ. لو تغير حجم القمر- تابعها- أو بعده عنها. لو تغيرت نسبة الماء واليابس فيها زيادة أو نقصاً... لو. لو. لو... إلى آلاف الموافقات المعروفة والمجهولة التي تتحكم في صلاحيتها لاستقبال هذا النوع من الحياة وحضانته.
أليست هذه آية أو آيات معروضة في هذا المعرض الإلهي؟
ثم. هذه الأقوات المذخورة في الأرض للأحياء التي تسكنها. تسكن سطحها، أو تسبح في أجوائها، أو تمخر ماءها، أو تختبئ في مغاورها وكهوفها، أو تختفي في مساربها وأجوافها.. هذه الأقوات الجاهزة المركبة والبسيطة والقابلة للوجود في شتى الأشكال والأنواع لتلبي حاجة هذه الأحياء التي لا تحصى، ولا تحصى أنواع غذائها أيضاً.
هذه الأقوات الكامنة في جوفها، والساربة في مجاريها، والسابحة في هوائها، والنابتة على سطحها، والقادمة إليها من الشمس ومن عوالم أخرى بعضها معروف وبعضها مجهول، ولكنها تتدفق وفق تدبير المشيئة المدبرة التي خلقت هذا المحضن لهذا النوع من الحياة، وجهزته بكل ما يلزم للأنواع الكثيرة التي لا تحصى.
وتنوع مشاهد هذه الأرض ومناظرها، حيثما امتد الطرف، وحيثما تنقلت القدم. وعجائب هذه المشاهد التي لا تنفد: من وهاد وبطاح، ووديان وجبال؛ وبحار وبحيرات، وأنهار وغدران. وقطع متجاورات، وجنات من أعناب، وزرع، ونخيل صنوان وغير صنوان.. وكل مشهد من هذه المشاهد تتناوله يد الإبداع والتغيير الدائبة التي لا تفتر عن الإبداع والتغيير. ويمر به الإنسان وهو ممحل فإذا هو مشهد، ويمر به وهو ممرع فإذا هو مشهد آخر. ويراه وهو نبت خضر فإذا هو مشهد، ويراه إبان الحصاد حين يهيج ويصفر فإذا هو مشهد آخر. وهو هو لم ينتقل باعاً ولا ذراعاً في المكان!
والخلائق التي تعمر هذه الأرض من الأحياء. نباتاً وحيواناً. وطيراً وسمكاً، وزواحف وحشرات.. بله الإنسان فالقرآن يفرده بنص خاص.. هذه الخلائق التي لم يعرف عدد أنواعها وأجناسها بعد- فضلاً على إحصاء أعدادها وأفرادها وهو مستحيل- وكل خليقة منها أمة! وكل فرد منها عجيبة. كل حيوان. كل طائر. كل زاحفة. كل حشرة. كل دودة. كل نبتة: لا بل كل جناح في يرقة، وكل ورقة في زهرة، وكل قصبة في ورقة! في ذلك المعرض الإلهي العجيب الذي لا تنقضي عجائبه.
ولو مضى الإنسان- بل لو مضى الأناسي جميعاً- يتأملون هكذا ويشيرون مجرد إشارة إلى ما في الأرض من عجائب، وإلى ما تشير إليه هذه العجائب من آيات، ما انتهى لهم قول ولا إشارة. والنص القرآني ما يزيد على أن يوقظ القلب البشري للتأمل والتدبر، واستجلاء العجائب في هذا المعرض الهائل، طوال الرحلة على هذا الكوكب؛ والمتعة بما في هذا الاستجلاء من مسرة طوال الرحلة.
غير أنه لا يدرك هذه العجائب، ولا يستمتع بالرحلة هذا المتاع، إلا القلب العامر باليقين. {وفي الأرض آيات للموقنين}.. فلمسة اليقين هي التي تحيي القلب فيرى ويدرك؛ وتحيي مشاهد الأرض فتنطق للقلب بأسرارها المكنونة، وتحدثه عما وراءها من تدبير وإبداع. وبدون هذه اللمسة تظل تلك المشاهد ميتة جامدة جوفاء؛ لا تنطق للقلب بشيء؛ ولا تتجاوب معه بشيء. وكثيرون يمرون بالمعرض الإلهي المفتوح مغمضي العيون والقلوب. لا يحسون فيه حياة، ولا يفقهون له لغة؛ لأن لمسة اليقين لم تحي قلوبهم، ولم تبث الحياة فيما حولهم! وقد يكون منهم علماء. {يعلمون ظاهراً من الحياة الدنيا}.
أما حقيقتها فتظل محجوبة عن قلوبهم، فالقلوب لا تفتح لحقيقة الوجود إلا بمفتاح الإيمان، ولا تراها إلا بنور اليقين.. وصدق الله العظيم.
ثم العجيبة الأخرى التي تدب على هذه الأرض:
{وفي أنفسكم أفلا تبصرون}..
وهذا المخلوق الإنساني هو العجيبة الكبرى في هذه الأرض. ولكنه يغفل عن قيمته، وعن أسراره الكامنة في كيانه، حين يغفل قلبه عن الإيمان وحين يحرم نعمة اليقين.
إنه عجيبة في تكوينه الجسماني: في أسرار هذا الجسد. عجيبة في تكوينه الروحي: في أسرار هذه النفس. وهو عجيبة في ظاهره وعجيبة في باطنه. وهو يمثل عناصر هذا الكون وأسراره وخفاياه:
وتزعم أنك جرم صغير ** وفيك انطوى العالم الأكبر

وحيثما وقف الإنسان يتأمل عجائب نفسه التقى بأسرار تدهش وتحير. تكوين أعضائه وتوزيعها. وظائفها وطريقة أدائها لهذه الوظائف. عملية الهضم والامتصاص. عملية التنفس والاحتراق. دورة الدم في القلب والعروق. الجهاز العصبي وتركيبه وإدارته للجسم. الغدد وإفرازها وعلاقتها بنمو الجسد ونشاطه وانتظامه. تناسق هذه الأجهزة كلها وتعاونها، وتجاوبها الكامل الدقيق. وكل عجيبة من هذه تنطوي تحتها عجائب. وفي كل عضو وكل جزء من عضو خارقة تحير الألباب.
وأسرار روحه وطاقاتها المعلومة والمجهولة.. إدراكه للمدركات وطريقة إدراكها وحفظها وتذكرها. هذه المعلومات والصور المختزنة. أين؟ وكيف؟ هذه الصور والرؤى والمشاهد كيف انطبعت؟ وأين؟ وكيف تُستدعى فتجيء.. وذلك في الجانب المعلوم من هذه القوى. فأما المجهول منها فهو أكبر وأكثر. تظهر آثاره بين الحين والحين في لمسات وإشراقات تدل على ما وراء الظاهر من المغيب المجهول.
ثم أسرار هذا الجنس في توالده وتوارثه. خلية واحدة تحمل كل رصيد الجنس البشري من الخصائص؛ وتحمل معها خصائص الأبوين والأجداد القريبين. فأين تكمن هذه الخصائص في تلك الخلية الصغيرة؟ وكيف تهتدي بذاتها إلى طريقها التاريخي الطويل، فتمثله أدق تمثيل، وتنتهي إلى إعادة هذا الكائن الإنساني العجيب؟!
وإن وقفه أمام اللحظة التي يبدأ فيها الجنين حياته على الأرض، وهو ينفصل عن أمه ويعتمد على نفسه، ويؤذن لقلبه ورئتيه بالحركة لبدء الحياة. إن وقفة أمام هذه اللحظة وأمام هذه الحركة لتدهش العقول وتحير الألباب، وتغمر النفس بفيض من الدهش وفيض من الإيمان، لا يقف له قلب ولا يتماسك له وجدان!
وإن وقفة أخرى أمام اللحظة التي يتحرك فيها لسان الوليد لينطق بهذه الحروف والمقاطع والكلمات ثم بالعبارات. بل أمام النطق ذاته. نطق هذا اللسان. وتصويت تلك الحنجرة. إنها عجيبة. عجيبة تفقد وقعها لأنها تمر بنا كثيراً. ولكن الوقوف أمامها لحظة في تدبر يجدد وقعها. إنها خارقة. خارقة مذهلة تنبئ عن القدرة التي لا تكون إلا لله.
وكل جزئية في حياة هذا المخلوق تقفنا أمام خارقة من الخوارق، لا ينقضي منها العجب؛ {وفي أنفسكم أفلا تبصرون}..
وكل فرد من هذا الجنس عالم وحده.
ومرآة ينعكس من خلالها هذا الوجود كله في صورة خاصة لا تتكرر أبداً على مدار الدهور. ولا نظير له بين أبناء جنسه جميعاً لا في شكله وملامحه، ولا في عقله ومداركه، ولا في روحه ومشاعره. ولا في صورة الكون كما هي في حسه وتصوره. ففي هذا المتحف الإلهي العجيب الذي يضم ملايين الملايين، كل فرد نموذج خاص، وطبعة فريدة لا تتكرر. يمر من خلالها الوجود كله في صورة كذلك لا تتكرر. كما لا توجد بصمة أصابع مماثلة لبصمة أصابع أخرى في هذه الأرض في جميع العصور!